الأخ روفينو(استقبال)

الفصل العاشر: احترام الخليقة

تسجيل الفصل على شكل21x29,7 cm

ستُفتَح هذه الصّفحات الجديدة من خلال النّور : نور الحمل الفرحة، روعة الآب الأبديّة. ستُنيرنا هذه النّور حول دعوة الخليقة. ثمّ سنتوقّف لتسبيح الخالق بمساعدة نشيد أُختنا الشّمس الّذي ألّفه فرنسيس نحو آخر حياته. سنكتشف المحبّة الأخويّة الّتي يكنّها فرنسيس للمخلوقات وسنرى أنّ هذا النّشيد،إذا كان نشيد تسبيحات، يُخفي أيضاً قراءةً أخرى تُؤثّر في أعماق النّفس. أخيراً، سننهي بتأمّل البند ١٨ من قاعدتنا، الّذي يتناول حول الإحترام الواجب للخليقة.

  • 0

النّورالفرحة،روعةالآب الأبديّة

مصباح النّور، هو الحمل

ذهب بي في الرّوح إلى جبل عظيم عال؛
وأراني المدينة المقدّسة أورشليم نازلةً من السّماء عند الله
و لا حاجة للمدينة إلى الشّمس ولا إلى القمر ليضيئنا فيها،
لأنّ مجد الله أنارها ومصباحها الحمل.
(رؤ٢١ ١٠ ٢٣)

في البدء كان الكلمة

في البدء كان الكلمةوالكلمة كان عند الله
وكان الكلمة الله.
هذا كان في البدء عند الله. كلّ به كوّن
وبغيره لم يكوّن شيء ممّا كوّن
فيه كانت الحياة
والحياة كانت نور النّاس
والنّور يُضيء في الظّلمة والظّلمة لم تدركه.
( يو١ ١-٥)

تُلحّن الّليتورجيّا في بداية هذه الفاتحة من إنجيل القدّيس يوحنا في عيد ميلاد المسيح. لم تستطع الكنيسة إختيار تاريخ أفضل لعرض صفحة الإنجيل هذه لتأمّلنا. بالفعل، من العادل والجيّد إعلان هذا اليوم حيث أصبح يسوع إبن الإنسان : أنّه ابن الله ؛ أنّه كان سابقاً في بدء هذا العالم ؛ أنّه الله نفسه ؛ وأنّ الخلق صُنِعَ منه ومعه ؛ وأنّ حياة البشر ليست ممكنة إلاّ فيه، وذلك منذ أصل البشريّة ؛ وأنّه الحياة والّتي يُعطيها،هي نور البشر...

إذاً وُلِدَ يسوع في وسط الّليل وفي رزنامتنا الأرضيّة، في إحدى الّليالي الّتي هي الأطول في السّنة. ليست هذه الخصوصيّة ثمرة صدفة سعيدة. هي تعني جيّداً أنّ تاريخ البشريّة كان غارقاً في الظّلمات بسبب خطيئة الإنسان، وقد نزل يسوع في أغمق هذه الظّلمات لكي يخلّصنا ؛ لكي يعطينا الحياة، أصبح مخلّصاً. لقد أجمعت أغلبيّة الحضارات القديمة الشّرقيّة (مصر، بابل، إيران) النّور للخير، للحياة، للكائن بينما كان الّليل والظّلمة ملكوتا الشّرّ، الموت والعدم. لم تخرق العقائد اليهوديّة والمسيحيّة هذا التّناقض الأساسيّ. تترجم الّليلة الفصحيّة بشكلٍ رائعٍ في مسيرتها الّليتورجيّة، عن إنتصار الحياة على الموت، والنّور على الظّلمات. في بداية القدّاس عن النّور هذا، وبينما صرح الكنيسة مغموراٌ بكامله في الظّلمة، يتلو الكاهن، قرب النّار الجديدة، هذه الصّلاة :

"أيّها الرّبّ إلهنا، من خلال ابنكَ الّذي هو نور العالم، لقد أعطيتَ للبشر وهج نوركَ ؛ تكرّم بمباركة هذه الشّعلة الّتي تلمع في الّليل ؛ أعطنا، خلال هذه الأعياد الفصحيّة، أن نتأجّج برغبة كبيرة من السّماء لدرجة أن نتمكّن من الوصول، بقلب طاهر، لأعياد النّور الأبديّة. بواسطة يسوع، المسيح، إلهنا."

عندها يُضيء الكاهن الشّعلة الفصحيّة من شعلة النّار الجديدة ويتابع :

لتزيل نور المسيح، المقيم في المجد،الظلمات من قلبنا ومن روحنا." «

لقد أعلن الأنبياء أنّ يوم االله سيكون مظلماً للأشرار(اش١٣ ١٠ ؛ حز٣٢ ٧ ؛ ٥ ١٨)، لكنّه سيكون نوراً للصّالحين(اش٩ ١)، كما في سفر الخروج. في العد الجديد، يُنجزُ تبشير يسوع هذا المنظور الأخروي المعلن من قبل أشعيا( متى٤ ١٦). من خلال عجائبه وأقواله، يُعلن يسوع النّور للكافرين(رسل٢٦ ٢٣) ؛ عندها، تلبس شفاءات العميان من جديد، معنىً مهمّاً(يو٩ ٥). المسيح هو نفسه النّور الّتي يعلنها(يو١٢ ٤٦) والّتي تُعطي الحياة لجميع البشر(يو١ ٤٩)؛ فتتطابق المأساة الّتي هو ضحيّتها في صراعٍ بين النّور والظّلمات(يو١ ٤؛ ٣ ١٩؛ ١٣ ٣٠؛ لو٢٢ ٥٣). يبدو تجلّي المسيح، تحت غشاء الجسد المتواضع، الذّات الإلهي من مسيح النّور هذا(متى١٧ ٢؛ ٢ قو٤ ٦) مقتلعاً البشر من إمبراطوريّة الظّلمات(اف٤ ٨؛٥ ٨): يُعلن المسيح النّور(رسل٢٦ ٣٣) من رؤيا الله المرادة(١بط٢ ٩) ويُنيرنا(عب٦ ٤). يدعونا للإختيار بحريّة للإهتداء، الّتي ليست إلاّ خطوة الظّلمة نحو النّور(افس٥ ٨). إنّ المسيحييّن الّذين اختاروا العيش في "ابن النّور"(١تس٥ ٥؛ لو١٦ ٨ ؛ يو١٢ ٣٦)، استبعاد أعمال الظّلمات(رو١٣ ١٢وتابع)، للإتّصال بإله النّور(١يو١ ٥وتابع) لهم حصّتهم من ميراث القدّيسين في

النّور(قو١ ١٢). في آخر الأزمان، سيصل الصّالحون للنّور الأبديّة المشّعة بأورشليم الإلهيّة(متى١٣ ٤٣؛رسل٢١ ٢٣وتابع)؛ سيتأمّلون الله وجهاً لوجه، مشعّيّن للأبد(رسل٢ ٤) * ( extrait de la définition de Lumière) Petit dictionnaire encyclopédique de la Bible,Brepols1992,p543 ,544 .

إرتباط الخلق في المسيح

الخلق هو أساس جميع تصاميم الله الخلاصيّة بين تاريخ الخلاص الّذي بلغ ذروته في المسيح. وبعكس ذلك، فسرّ المسيح هو النّور الحاسم على سرّ الخلق. إنّه يكشف عن الهدف الّذي من أجله في البدء خلق الله السّماء والأرض(تك١ ١) : منذ البدء، كان في وسط الله مجد الخلق الجديد في المسيح * ت م ك ك٢٨٠. لهذا السّبب، تبدأ تلاوة النّصوص في الّليلة الفصحيّة، قدّاس الخلق الجديد في المسيح، بسفر التّكوين(٢٨١). . يتخطّى تجسّد المسيح للغاية خلق العالم. المقصود هنا تأكيد عقائديّ مهمّ جدّاً للتّحديد جيّداً مفهوم الكبير والصّغير. من ناحية المقاييس الماديّة، يبدو خلق العالم أكثر أهميّة للغاية. للمقارنة، لا يستحقّ حدث بيت لحم الصّغير، المجهول أوّلاً من المؤّرخين، حتّى أن يكون مذكوراً.إذاً، حسب المظهر الكمّي، إنّ الخلق أكثر أهميّة من التّجسّد. لكن، باعتبار أنّ قلباً بشريّاً واحداً يمثّل نظاماً جديداً من العظمة نسبةً لجميع الكون، كما يقول باسكال، بإمكاننا الفهم، وعندها فقط، أنّ ما الّذي حدث هنا هو نظاماً آخراًمن الأهميّة : لقد أصبح الله إنساناً ؛ هو، الخالق، الّلوغوس الخالد، ينزل لهذا الوجود البشري. لقد فُتِحَت سعة جديدة، نسبة إلى السّعة الماديّة، الّلامتناهية ظاهريّاً، الّتي هي في الحقيقة متدنّية جدّا * Cardinal Joseph Ratzinger, Voici quel est notre Dieu, Plon/ Mame 2005 p.152 153 ً. عديدة هي مقاطع الإنجيل الّتي تكشف أنّ الطّبيعة بأكملها هي، ليست فقط متدنّية، بل خاضعة للمسيح، للكلمة المتجسّد : الماء المحوّلة إلى خمر، العاصفة المهدّءة، شفاء المرضى، قيامة الموتى،... عند العشاء الأخير، بارك الخبز وقال : "هذا هو جسدي"، وأصبح الخبز جسده؛ وبارك الخمر : "هذا هو دمي "، وأصبح الخمر دمه. وإزاء هذه التّحوّلات، يترك لنا ليس فقط الدّهشة لرؤيته، بل الفرح بالإيمان به. في جميع هذه العجائب، يطلب يسوع من الطّبيعة بإطاعته، وهي تطيعه. لكن عند مماته، ها هي تقرّ أنّها مصابة في أعماله الحيّة : الظّلمات الّتي تنتشر، الشّمس الّتي تُظلم، الأرض الّتي تهتزّ، الصّخور الّتي تنفسخ،الموتى الّذين يحيون. إلى أين سيتوقّف هذا لولم يكن الّذي قد مات على الصّليب ليخلّص كلّ شيء حتماً ؟ سيلخّص القدّيس بولس هذه الأحداث الإنجيليّة في صيغته : وبه يثبت الجميع(قو١ ١٧). سيكتب

أيضاً لمسيحي روما أنّ انتظار الخليقة يتوقّع تجلّي المجد في أبناء الله لأنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل لا عن إرادة ولكن لأجل الّذي أخضعها على رجاء أنّ الخليقة ستتحقّق هي أيضاً من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أبناء الله. ونحن نعلم أنّ الخليقة كلّها تئنّ وتتمخّض حتّى الآن(رو٨ ١٨-٢٣). رغم هذه التّأوّهات، رغم آلام التخميض هذه، إنّ دعوة الخليقة بأكملها هي تسبيح وتمجيد الخالق،أن تدخل في راحته.

دعوة الخليقة هي بأن تدخل في الرّحة الإلهيّة

هناك نقطتان مهمّتان في سيرة الخليقة الأولى : ١. خلق الرّجل والمرأة ؛ ٢. والرّاحة الإلهيّة. وهذه الأخيرة مذكورة بإلحاح : استراح في اليوم السّابع من جميع عمله الّذي عمل. وبارك الله اليوم السّابع وقدّسه لأنّه فيه استراح من جميع عمله الّذي خلقه الله ليصنعه(تك٢ ٢-٣). بإمكاننا التّساؤل حول الإلحاح عن الرّاحة الإلهية. من الملاحظ أنّ الصّيغة المستعملة للأيّام الأخرى حُذِفَت هنا إستثنائيّاً : وكان مساء وكان صباح. في الواقع إنّ الرّاحة الإلهيّة غير محدودة في الزّمن : هي أبديّة. وإذا أراد الله أن يعمل الإنسان على الأرض، يُرشده، من خلال وصايا السّبت، أنّ دعوته الوحيدة ليست العمل، بل المشاركة في الرّاحة الإلهيّة.

ترى إسرائيل في السّبت واحداً من علامات العهد الإلهي المميّزالّتي تجعل منه الشّعب المختار. لكن، ما هو معنى السّبت المُعطى لإسرائيل ؟ يُماثل أعمال الإنسان، محتوى عمل الأيّام السّتة. يحمي الإنسان الّذي يقضي كلّ وقته لإستعباد الأرض. يُحذّر من الفساد الّذي يقول :" كان العمل حياته". يُشير إلى الإنسان أنّه لن يُنجزُ إنسانيّته في العلاقة مع العالم الّذي يحوّله، بل عندما يوجّه نظره إلى فوق. ليس العمل جوهر الإنسان. بما أنّه الصّورة، يكمّل الإنسان أوّلاً الله. لكن ماذا تعني تقدمة العمل الإلهي "في البدء "كونها نموذج الأسبوع الإنساني، سوى أنّ على الإنسان العيش على صورة الّذي خلقه ؟

في العهد الجديد، إنّ خير العهد منتشر لجميع البشر، ويدعو الفصل ٤ من الرّسالة إلى العبرانيين المسيحيّين، كغاية أخيرة وكدعوة، الدّخول في الرّاحة الإلهيّة. لنعي إذاً التّذوّق كم هي رائعة

نهاية سيرة الخلقية هذه الكهنوتيّة، الّتي تشير برصانة مشاركة الإنسان لخير إلهيّ لا يوصف بدقّة * : السّكون في الله.

الخليقة بأجمعها تغنّي

منذ تكوين السّماء، تمجّد الفرق الملائكيّة تسابيح الله. بإمكاننا التّأكّد والإثبات، ليس أنّ كائناً بشريّاً قد سنحت له الفرصة لسماعها "في وقتها"، بل لأنّ الله بنفسه قد علّمنا إيّاها عندما أذهلت حكمته أيّوب(أي٣٨ ١-٧) : فأجاب الرّبّ أيّوب من العاصفة وقال : من هذا الّذي يُلبّسُ المشورة بأقوال ليس من العلم في شيء ؟ أُشدد حقويكَ وكن رجلاً إنّي سائلكَ فأخبرني. أين كنتَ حين أسّستُ الأرض ؟ بيّن إن كنتَ تعلم الحكمة. من وضع مقاديرها إن كنتَ تعلم أم من مدّعليها الخيط ؟ على أيّ شيء أُقرّت قواعدها أم من وضع حجر زاويتها ؟ إن كانت كواكب الصّبح ترنّم جميعاً وكلّ بني الله يهتفون ؟ وهكذا إذاً، عند لحظة تكوين الأرض، غنّت النّجوم وجميع أبناء الله، أيّ أنّ الملائكة هي أيضاً قد غنّت .وماذا كانت تغنّي ؟ كانت تغنّي تسابيحاً سمعها الله وحده بما أنّ البشر لم يوجد بعد. غير أنّ، يوجد شخصاً نعرفه. إنّه النّبيّ أشعيا الّذي سمعه وتلقّاه لاحقاً من أفواه السّرّافين : قدّوس ! قدّوس ! قدّوس ربّ الجنود ! الأرض كلّها مملؤة من مجد(اش٦ ٣). أوشعنا في الأعالي. مبارك الّذي أتى باسم الرّبّ. أوشعنا في الأعالي. *

حالات الخليقة الثّلاث

يذكّرنا نصّ القدّيس بولس الّذي نسرده في الأعلى(رو٨ ١٨-٢٣) : فإنّ انتظار الخليقة يتوقّع تجلّي... أنّ هناك ثلاث حالات في علاقات الإنسان والخليقة * Par la bouche des enfants,Olivier ROUSSET مستخرج من كتاب Les trois états de la créationمحتوى هذا المقطع المعنون إنّ . الأولى، قبل الخطيئة، معرّفة من خلال

مقطع سفر التّكوين هذا(تك١ ٢٦-٣١) حيث يقول الله (باختصار) : لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا وليتسلّط على جميع الأرض وكلّ الدّبابات الدّابة على الأرض. الحالة الثّانية، بعد الوقوع، هي موصوفة إذاً في نفس سفر التكوين(تك٣ ١٤-٢٠). يتحدّث الله إلى آدم: ملعونة الأرض بسببكَ بمشقّة تأكل منها طول أيّاّم حياتكَ. لكن، عبر القدّيس بولس، يزيد الرّوح القدس أيضاً شيئاً لهذه الرّؤيا المزدوجة : يجعلنا نتعرّف على حالة الخليقة الثّالثة. بإمكاننا إعادة قراءة رسالة القدّيس بولس لأهل رومية ؛ تحدّد لنا هذه الرّسالة جيّداً أنّ إذا الخليقة أُخضعت للباطل لا عن إرادة ولكن لأجل الّذي أخضعها على رجاء. هي من تلقاء نفسها، سترفض عندها أن تَخدِمَ. سيُلقي البحر بالقراصنة على الشّاطئ، لكنّ الله لن يسمح له بالتّمرّد. سيحملهم عندها على طريق فريستهم.

ها نحن إذاً أمام سرّ عظيم جدّاً وهو في قلب الطّبيعة نفسها. نعلم أنّها كُوّنت من خلال ابن الله الحبيب، ومن خلاله ومن أجله، كما تقول الرّسالة إلى أهل قولسي. وبه يثبت الجميع. لكنّه ثبّتها، جميعها، كما هي، تحت تبعيّة الإنسان ويجعلها تخضع له، لفرحها. لكن عندما خطئ الإنسان، تحوّل هذا الفرح لحزنٍ إذ ها هي تحت خدمة الشّرّ. سترفض هذا الإستعباد، لكن سيرغمها الله على القبول. والحال هذه، في هذا العنف نفسه الّذي فُرضَ عليها، تجد سبباً للأمل. لا يتصرّف الله هكذا إلاّ لأنّه أزمع على إعادة للإنسان حريّة المحبّة هذه الّتي قد خسرها. جميع الخليقة مرتبطة في العبوديّة، لكنّها أيضاً مشدودة بأجمعها نحو حريّة أبناء الله. ونحن نعلم أنّ هذا الأمل هو معوّض سابقاً بما أنّ، في نفوس القدّيسين، المخلوقات لديها حقّاً حصّةً لهذه الحريّة وأنّ المسيحي كونه المسيح نفسه وأنا حيّ لا أنا بل إنّما المسيح حيّ فيّ(غل٢ ٢٠)تجد حتّى في الطّفل الصّغير الّذي قد عمّد لتوّه الّذي من خلاله ومن أجله قد خُلِقت وفيه تستمر.

هذه السّيطرة المزدوجة على الطّبيعة الّتي يملكها الإنسان، في الخير وفي الشّرّ، نمارسها لأجل حصّتنا ويمارسها الجميع حولنا. لكن هل نحن في عداد القدّيسين الّتي وجدت المخلوقات فرحها من خلالهم ؟ نعلم أنّه نقص عشر أشخاص صالحين لصودوم لكي تخلص من شلاّلات الكبريت والنّار. على العكسن هناك فرنسيس الأسّيزي، الّذي جعل من ذئب غوبيو حملاً وديعاً ؛ هناك القدّيسة سكولستيك الّتي أحدثت عاصفة لتمنع أخيها، القدّيس بنوا، من هجرها بسرعة، هو الّذي أراد إلاّ إطاعة قانون ديره ح هناك كلب جان بوسكو الّذي ظهر كحارسه في الشّوارع السّيئة السّمعة ؛ هناك الجبل الّذي هزّه غريغوريوس من خلال كلمة ؛ هناك العصافير الّتي اجتمعت لكي تغنّي تحت شبابك الغرفة الّتي توفيت فيها القدّيسة تريز الطّفل يسوع.

كلّ هذا سهل، طبيعي، يُعيد روائع الإنجيل ويمدّدها، المرضى الّذين يُشفون، قيامة الموتى، العاصفة المهدّءة، تعدّد الخبز.

ويا له من تشابه غامض بين الطّبيعة وملكوت السّماوات ! جميع ما في الطّبيعة تحدّثنا عنه : بئر أيّوب، الحصاد الّذي يَبيض،التّينة اليابسة، عصافير الحقول، وفي أعلى الإنجيل، سمكة طوبيا، حمارة بلام، تواطؤ البحر الأحمر... إنّها نفس الخليقة، دائماً وفي كلّ مكان، الّتي تظهرجاهزة كليّاً للدّخول في حريّة أبناء الله، حتّى الوصول لهذه الّلحظة ، هذا الفرح الحاسم المقتنى، والّذي شاهده القدّيس يوحنا في الرّؤيا : وكلّ خليقة ممّا في السّماء وعلى الأرض وتحت الأرض وممّا في البحر وكلّ ما فيها سمعتها تقول البركة والكرامة والمجد والعزّة للجالس على العرش وللحمل إلى دهر الدّهور!(رؤ٥ ١٣)

نشيد المخلوقات

أيّها الرّبّ العليّ والكليّ القدرة والصّالح،
لكَ التّسابيح، والمجد، والإكرام،وكلّ بركة؛
فهي بكَ وحدكَ تليقُ، أيّها العليّ،
وما من إنسان يستحقّ أن يدعوكَ.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي، لجميع مخلوقاتكَ،
ولاسيما السّيدة الأخت الشّمس،
الّتي هي النّهار، وبها أنتُ تنيرنا؛
وهي جميلة، ومشعّة ببهاء عظيم؛
وتحمل إشارة * أدبيّاً :" له معناً".. إليكَ، أيّها العليّ.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بالأخ القمر والنّجوم؛
في السّماء كوّنتهانيّرة، ثمينة، جميلة.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بالأخت الرّيح،
وبالهواء والسّحب، والسّماء الصّافية
ولجميع الفصول، الّتي بها تساند مخلوقاتك
كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بالأخ الماء،
الّذي هو جزيل الفائدة ووضيع
وثمين، وعفيف.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي،بالأخت النّار
الّتي بها تنيرلنا الّليل:
فهي جميلة، فرحة،صلبة، قويّة.
كنْ مسبّحاً،يا ربّي بأختنا وأمّنا الأرض
الّتي تساندنا وتدبّرنا
وتنتج الثّمار المتنوّعة،
مع الأزهار الملوّنةوالأعشاب.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي،بأولئكَ الّذين يصفحون حبّاً لكَ؛
ويحتملون الأسقام والشّدائد
طوبى للّين يحتملونها بسلام،
لأنّهم منكَ، أيّها العليّ، سيكلّلون.
كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بأخينا الموت الجسدي،
الّذي لا يقدرأن يغلبمنه إنسان حيّ.
والويل لمن يموتونفي الخطايا المميتة ؛
طوبى لمن يجدهم في إرادتكَ الكليّة القداسة
لأنّ الموت الثّاني لن يلحق بهم سوءاً.
سبّحوا ربّي وباركوه،واشكروه، واخدموه،
بتواضع كبير.

ظروف تأليف نشيد المخلوقات

لقد قيل أنّ هذا الشّعر يرافق حياة فرنسيس الأسّيزي الكاملة كلازمة، وأنّنا نجد في كلّ لحظةٍ مقتطفات لسيرة أقواله العاديّة. لا يبقى إلاّ أنّه يبرز، تحت شكله التّام، رحلة روحيّة طويلة. لقد مضت أكثر من عشرين سنة منذ إهتداء فرنسيس للحياة الإنجيليّة. عشرون سنة إجتهد فيها، يوماً بعد يومٍ، لإتباع خطوات المسيح، متأمّلاً دوماً،"المجيء الّلطيف" وآلام ابن الله العليّ. وها هو قد حصل في جسده، على جبل ألفيرنا، على السّمات الّتي تجعله مشابهاً كليّاً للمسيح المصلوب. ذارفاً دمه من جرّاء جراحاته،متعباً من جرّاء الصّوم والمرض، أعمى وشبه منازع، لم يعد فرنسيس عندها" مع المسيح إلاّ شيئاً واحداً مؤلماً ومخلّصاً" ،حسب أقوال كلودال. * وهنا حصل الحدث. آتياً من الألفيرنا، توقّف فرنسيس، متعباً، في دير القدّيس دميانوس حيث تعيش كلاارا وأخواتها. أنزلته كلارا في غرفة قرب الدّير. لكن لم تدعه آلآمه يرتاح." إنّه اليوم الخمسين وأكثر دون القدرة على تحمّل نور الشّمس طيلة النّهار، ووهج النّار في الّليل... عيناه تؤلمانه لدرجة أنّه لا يستطيع النّوم لحدّ القول أبداً... " لكن، في ليلة، بينما كان يفكّرلجميع المحن الّتي يعانيها، أشفق على نفسه وقال في نفسه : يا ربّ، ساعدني في عاهاتي، لكي اقوى على تحمّلها بصبر!(س ب٤٣). يشير شيلانو أنّ صراعاً بدأ عندها في نفس فرنسيس وأنّه صلّى لمكافحة إغراء الإحباط. في سيرة هذا الصّراع، سمع فجأةً في نفسه صوتاً : قل لي يا أخي : إذا أعطيناك مقابل آلامكَ وعذاباتكَ، كنزاً كبيراً وغالياً : كتلة الأرض محوّلة إلى ذهب صافٍ، الحصى إلى أحجار كريمة، ومياه الأنهر إلى عطرٍ، ألن تنظركلا شيء، لكنز مماثل، الأرض، الحصى والمياه ؟ ألن تفرح ؟" أجاب فرنسيس الطّوباوي : "يا ربّ، سيكون كنزاً كبيراً ، غالياً جدّاً، لا يُقدّر، زيادة عن كلّ ما نحبّ ونبغيه !" " إذاً يا أخي !" قال الصّوت، إفرح وكن نشيطاً وسط آلامكَ وعداباتكَ : منذ الآن عش بسلام كما لو كنتَ تشارك قبلاً ملكوتي "(س ب ٤٣- ٢ ش ٢١٣). عندها، أحسّ فرنسيس بفرح فوطبيعي في نفسه : فرح تأكيد الملكوت. يعلم الآن أنّ الطّريق الّتي تبعها -طريق العذابات مع المسيح- هي حقّاً الطّريق الّتي" تقود إلى أرض الأحياء"(٢ق٦). في تلك الّلحظة، أحسّ في نفسه كشروق شمس رائع. في الصّباح، دعى رفاقه ؛ طائراً من الفرح، بدأ يغنّي لهم نشيد المخلوقات الّذي قد ألّفة لتوّه.

ينتهي نشيد المخلوقات بالضّبط بالآية المخصّصة" لأختنا وأمّنا الأرض". رغم ذلك، أراد فرنسيس زيادة آيتين أخرتين لنشيده.

لقد استوحيت هذه الأخيرة بعد جرّاء صدمة وفي ظروف خاصّة. في حين أنّ القسم الأوّل من النّشيد يعود لخريف ١٢٢٥، فلم تؤلّف الآية قبل الأخيرة إلاّ في تمّوز١٢٢٦، في قصر مطران أسّيزي، لإنهاء الصّراع بين المطران وحاكم المدينة ؛ هي بالطّبع تسبيح سماح وسلام * في الموضع نفسه.مستخرجات من صفحات ١٧٥ E.LECLERC . إنّ الآية الأخيرة مؤلّفة من بداية تشرين الأوّل١٢٢٦، بينما كان فرنسيس محتضراً تقريباً( لنذكّر أنّ فرنسيس توفي في ليلة ٣ٳلى٤ تشرين الأوّل١٢٢٦)؛ هي سلام ترحاب يوجّهه الكاتب لموته الخاص * في الموضع نفسه. مستخرجات من صفحات١٨٧. .

تسبيح كوني ونشيد من الأعماق الصّميميّة

تسبيح كوني ونشيد من الأعماق الصّميميّة

منذ ذاك يبدو من المتعذّر فهم هذا النّشيد دون ربطه مباشرة لخبرة فرنسيس العميقة،لألمه المرير، لصبره البطولي، لصراعه اليوميّ للقيم الإنجليّة، لفرحه الفوطبيعي، بغختصار، لوجوده الحميم مع المسيح. يبرز هذا النّشيد من أعماق وجود. هو الإنجاز، ودون شكّ، التّعبير الأعلى. لكن، هناك شيئاً مثيراً للوهلة الأولى : هذا الرّجل ذي العينين المريضتين اللّتين لم تعد تحتمل النّور، والّذي لم يعد يفرح برؤية المخلوقات، والّذي لا يرى إلاّ روعة الملكوت، هذا الرّجلن يغنّي المادّة للتّعبير عن فرحه : المادّة الحارّة والمشعّة، الشّمس، النّار ؛ المادّة المغذيّة، الهواء، الماء والأرض. وفي كلّ هذا النّشيد، لا يوجد مرجعاً واحداً، و لا مجرّد تلميحةً لسرّ المسيح الفوطبيعي وملكوته ! فقط المذكورة هنا ومعظّمة، الحقائق الماديّة * في الموضع نفسه. مستخرجات من صفحات١٠. ، لمجد العليّ.

لكنّ هذا البعد الكوني، ليكون حقيقيّاً، لا يفترق، عند فرنسيس، من بعد حياته الرّوحيّة الآخر، الّذي هو إتّحاده مع الله من خلال طرق التّجسّد إبن العليّ * في الموضع نفسه. مستخرجات من صفحات ١٢. المتواضعة. والّذي يدلّنا لهكذا تعريف، هي إضافة آياتي التّسبيح الأخيرتين، حيث لا يُذكر أيّ عنصر كوني. لماذا يزيد فرنسيس آياتٍ لا تتضمّن عامل كونيّ، لنشيد مستخدمها بنظام في تأليفه الأوّل ؟ للحديث عن السّماح أو عن الموت لجسديّ، كان بإمكان فرنسيس كتابة نشيد آخر ببساطة، أوأيضاً توصية. لماذا إضافة هاتين الآيتين الأخيرتين للأولتين ؟ إذا كان هذا، فهناك حتماً صلة تربط المجموع وتجعل أنّ الآيتين المضافتين تجدان فعلاً "محلّهما" في

نشيد ألأخت الشّمس المؤلّف من قبل فرنسيس.

إذاً يبدو من الواضح أنّنا أمام نصّ لم نستوف ثروته. الحقائق الكونيّة المذكورة هنا ومعظّمة هي في الوقت نفسه أشياء ورموز. هي حقّاً أشياء. لا يجب نسيان وجه نشيد المخلوقات الواقعي. عندما يغنّي فرنسيس الشّمس، القمر والنّجوم، الهواء، الماء، النّار والأرض، فهو قد رأى حقّاً وقائع الأشياء الّتي قد يراها الجميع. لكنّ هذا النّشيد ليس فقط تسمية للعناصر الماديّة. تعبّر هذه العناصر الكونيّة أيضاً الممجّدة كما ينبغي شيئاً آخر : هي نفسها لغة لاشعوريّة * في الموضع نفسه. مستخرجات من صفحات٢٦ـ٢٧. ، نشيد أعماق الرّوح الخاصّة. طريق روح فرنسيس، وبشكل عام طريق رّوح البشريّة، هو حقّاً الصّلة الّتي تؤمّن الجامع الكامل لمجموع النّشيد.

صيغة النّشيد

ليس نشيد المخلوقات مجرّد تتابع صور بسيط. هي مرتبطة بين بعضها وتشكلّ مجموعاً مبنيّاً. إذا وضعنا الآن جانباً، الآيتين الأخيرتين من التّسابيح الّتي تتحدّث عن السّماح وعن أخينا الموت، فكيف يُعرّف العمل ؟

بإمكاننا رؤية سبعة آيات في هذا النّشيد. الأولى هي آية إرسال، نوعاً من الإهداء ؛ تشير إلى من موجّه التّسبيح :" أيّها الرّبّ العليّ، والكلّي القدرة والصّالح...". ثمّ يأتي نشيد المخلوقات بحصر المعنى، مقسّماً لست آيات على الشّكل التّالي :

الآية الأولى : السّيدة أختنا الشّمس ؛
الآية الثّانية : أخينا القمر والنّجوم ؛
الآية الثّالثة : أخينا الهواء؛
الآية الرّابعة : أختنا الماء؛
الآية الخامسة : أختنا النّار ؛
الآية السّادسة : أختنا الأمّ الأرض.

يكفي الإعتبار بانتباه ترتيبة هذه العناصر الكونيّة للإقتناع أنّ هذا النّشيد يخضع لتركيبة معيّنة،

ولكي تكون بوجه الإحتمال لا شعوريّة عند مؤلّفها ليس أقلّ عنفاً ومعبّراً بجرأة. بالفعل، هناك شيئان يسترعيان الإنتباه في هذا التّأليف.

أوّلاً التّناوب المنظّم للتّسميات أخ وأخت. ليست هذه التّسميات موزّعة عشوائيّاً. هي تشكل ثنائيّاً. وهكذا لدينا ثلاث ثنائي أخوي يتتابع :

السّيدة الأخت الشّمس والأخ القمر والنّجوم ؛

الأخ الهواء والأخت المياه ؛

الأخت النّار وأختنا الأمّ الأرض .

منذ دائماً، أحبّ الخيال إجماع بعض العناصر الكونيّة. تعرض الأساطير والدّيانات البدائيّة أمثالاً عدّة لهكذا تزاوج، مثل الثّنائي سماءـ أرض المذكورة من قبل هيزود الّذي هو واحد من مواضيع الميثولوجيّا العالميّة. تنتمي الأزواج الّتي شكّلها فرنسيس في نشيده للرّمز العالمي. تقوّم التّركيبات الخياليّة الأساسيّة، نماذج الاّ شعوري الجماعي. منذ دائماً، إستند الإنسان عفويّاً على هذه التّركيبات لخبراته الأكثر عمقاً والأكثر فاصلةً بالنّسبة لمصيره. على هذا المقياس، بإمكاننا الختام على نفس الطّريقة كما للمقطع السّابق : إنّ الّذي يُعبّر في نشيد المخلوقات هذا تحت غطاء تسبيح كوني، يهمّ أعماق الإنسان * في الموضع نفسه. مستخرجات من صفحات٣٥ إلى ٣٨ (منذ بداية هذا المقطع حتّى مرجع العلامة السّفلى ). . موضوع ثانٍ يلفت الأنظار في هيكلية هذا النّشيد : يبدأ فرنسيس بتسبيح السّيدة أختنا الشّمس، هذا العنصر الكوني البعيد جدّاً، رمز العليّ، ثمّ يتابع تسبيحه بنزوله تدريجيّاً نحو وقائع أكثر قرباًن منتهياً بأختنا الأمّ الأرض الّتي تحملنا وتطعمنا. يُذكّر هذا الأنتقال المنحدرطريقة التدّخل المختار من الله لإصلاح كبرياء آدم وحواء المجنون الّلذين أرادا أن يكونا كآلهة(تك٣ ٥)، الّلذين أراد حلول مكان خالقهما ليصبحا شمسهم الخاص. الله محبّة، هو، قد انحدر. لقد نزل. أخذ وضعنا البشريّ. المحبّة الّتي لا ترتفع بل تنخفض. تُظهر المحبّة أنّ هذا الإنخفاض يشكّل التّرفيع الحقيقي. نرتفع عندما ننخفض، عندما نصبح متواضعين، عندما ننحني نحو الفقراء، الأناس البسطاء. ينحدر الله لتنفيس الإنسان ووضعه عند محلّه. وهكذا، إنّ قانون الإنزال هو النّموذج الأساسي للتّصرّف الإلهي. يسمح لنا بالتّعرّف على شيء ما من الله ومن أنفسنا * ص١٥١. Joseph RATZINGER في الموضع نفسه .

ويغنّي فرنسيس هذا الإنزال في نشيده. يوجّه فرنسيس نشسده للعليّ، الّذي لا يستحق أيّ إنسان بتسميته، لكنّه يفعله على طريقة يسوه المسيح، الّذي نزل بأخذه وضعنا البشريّ. بغنائه نشيده الموجّه للآب، إنّه إذاً المسيح الّذي يحيا في فرنسيس الّذي يمجّده ، وليس فرنسيس نفسه. هذا هو السّبب لعدم ذكر المسيح بصراحة في النّشيدن بما أنّ في نظر فرنسيس، إنّ المسيح هو الّذي يوجّهه للآب من خلالهن هو موسوم الألفيرنا.

أيّها الرّبّ العليّ، الكلّي القدرة والصّالح

يبدأ نشيد الشّمس بصفة العليّ المعطاة لله. بينما الصّفات الأخرى الكلّي القدرة والصّالح لم تعد محفوظة لتسمية الله نفسه في تتابع النّصّ، تتكرّر صفة العليّ ثلاث مرّات في النّشيد. لا شكّ أنّها تعبّر عن هدف الرّوح العميق، طموحه الأكثر إرتفاعاً، إندفاعه نحو الإلهي. هذه الحركة العموديّة مؤكّدة بشدّة في الآيات الأولى :

أيّها الرّبّ العليّ والكلّ القدرة،
لكَ التّسبيح، والمجد،والإكرام،وكلّ بركة؛
فهي بكَ وحدكَ تليق، أيّها العليّ،
وما من إنسان يستحقّ أن يدعوكَ.
لكن، ها إنّ هذه الحركة نحو العليّ تتواجه بوعي : وما من إنسان يستحق أن يدعوكَ.

ليس المقصود هنا بجملة باعثة، مذكورة بلا إلحاح. تعبّر هذه الكلمات موقفاً أساسيّاً : فقر ضروري أمام عظمة الله. لا يُمكن لأيّ تسبيح، أيّاً كانت عظمته، أن يعبّر عن سرّ الله. كان فرنسيس واعياً ؛ يعترف به ويقبله * E.LECLERCط في الموضع نفسه. مستخرجات من ص.٤٣و٤٤. .

كنْ مسبّحاً يا ربّي بجميع مخلوقاتكَ

عندها يلتفتُ فرنسيس نحو المخلوقات : كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بجميع مخلوقاتكَ. هذه الآية هي، في الحقيقة، أكثر من مجرّد إنتقال بسيط. ؛ يدلّ على حركة فاصلة في حركة النّشيد. لقد انتهت الآية الأولى باعتراف دناءة الإنسان. لهذا لا يعدل فرنسيس لغناء التّسبيح المنيع. لكنّ نظره يلتفت الآن نحو العالم الأدنى، نحو المخلوقات. سيسبّح العليّ مع المخلوقات بكونه معها. لأنّ فرنسيس يشعر بودّ خاصّ جدّاً لهذه المخلوقات : لم نرهكذا تعاطف لجميع المخلوقات، يكتب شيلانو. من بإمكانه وصف الطّيبة الفائضة من روحه... ؟ من خلال تأمّل الشّمس، القمر، السّماء وجميع النّجوم، فقد شعر بفرح لا يُعبّر يصعد إلى قلبه(١ش ٨٠). لم يتوقّف هذا الودّ وهذا الفرح فقط على سطح الأرض ؛ بل غاصا إلى الأعمق : كان ينادي جميع الكائنات إخوته، و بشكل مجهول كامل ومنيعٍ للآخرين، كان يعلم، من خلال حدّة ذهن قلبه، الدّخول إلى باطن كلّ كائن، كما لو كان يتمتّع سابقاً بحريّة أولاد الله العظيمة(١ش ٨١) * في الموضع نفسه مستخرجات من ص.٦٠،٤٤و٤٥. .

إحتفال الشّمس

...ولا سيّما السّيّدة الأخت الشّمس،
الّتي هي النّهار، وبها أنتَ تنيرنا
وهي جميلة، ومشعّة ييهاء عظيم ؛
وتحمل إشارة إليكَ، أيّها العليّ.

إنّ أولى صور النّشيد الكونيّة هي صور السّيّدة الأخت الشّمس. يقول كاتب مرآة الكمال عن هذا الموضوع : كان فرنسيس يعتبر ويقول أنّ الشّمس هي أجمل من المخلوقات الأخرى ويُمكن أن يُشبّه أكثر لله، لأنّ الله نفسه في الإنجيل مسمّى" شمس العدالة"(م ك ١١٩). لهذا السّبب وضع اسمها على رأس التّسبيحات الّتي ألّفها لمخلوقات الله عندما طمأنه الرّبّ أنّه سيكون في ملكوته، ودعاها نشيد أختنا الشّمس(م ك١١٩). وذلك للقول مدى أهميّة صورة الشّمس هذه.

ليست الأولى فقط، بل إنّ نشيد المخلوقات بكامله موضوع تحت شعارها. إنّ الإحتفال الفرنسيسكاني هو أوّلاً تعبير لإنبهار أمام" الشّيء الرّائع". إنّ الإنسان الّذي تخلّى ، بتواضع كبير، لتسمية العليّ والتفت نحو الوقائع على الأرض لتكون درب تسبيحته، يلتحق بالمادّة الّتي لا تنفذ وبمذاق الأشياء. لن يفهم أحد نشيد الشّمس، إذا لا يرى فيها تعبيراً عن فرحة كبيرة وعميقة، مأخودة من واقع الأشياء. لكن كان هذا الفرح أوّلاً بالنّسبة لفرنسيس فرح النّور. شيء مميّز : أنّ الصّفة جميل، الّتي تتكرّر ثلاث مرّات في نشيده هي في كلّ مرّة موجّهة لواقع كوني الّذي، لعنوان أو لآخر، هو مصدر النّور : الشّمس، القمروالنّجوم، النّار. وهكذا، إنّ جميع صور النّور هي موصوفة بوضوح من قبله بجميلة. بالنّسبة لفرنسيس، إنّ المادة الجميلة في غاية الجودة، هي المادة المشعّة. إنّ الكون بالنّسبة له هو أوّلاً ظاهرة النّور. وفي هذه الظّاهرة، تحتلّ الشّمس الّدور الأوّل. تُعطي نهاية الآية، وتحمل إشارة إليكَ، أيّها العليّ، سعة التّسبيح الكاملة، سعة تتحدّث للنّفس وليس فقط للعيون. إنّ الرّوعة والكرامة الّلتان تشعّان بها في أعالي السّماء هما بالنّسبة للنّفس كجاذبيّة ورمز لحقيقة ملكيّة. باتّصاله مع الخيال لصورة النّور العالية هذه، تتلقّى النّفس خير رؤيا سامية ؛ ترى جلاء واصطلاح العليّ، رمز الّذي حكمت عليه الغير أهل بتسميته، لكن الّّذي ما تزال تسعى إليه وذكره في تسبيحتها.

بالتّأكيد، هناك عند فرنسيس خبرة المحرّم * لمساعدتنا على إدراك أفضل، لنسمع القدّيس بولس يقول لنا : فأسألكم أيّها الإخوة بمراحم الله أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله منكم عقليّة(رو ١٢ ١). نعلم أنّ الفعل" ضحّى" يعني "قرّب" ؛ هو مقرّب كلّ ما له علاقة بالله ؛ بإمكاننا إذاً ترجمة القدّيس بولس : "فأسألكم أن تعملوا بأنفسكم، بحياتكم، علاقة مستمرّة مع الله." الكونيّة. لكن من المهمّ قياس عمق هذه الخبرة. لا تفترق هذه الأخيرة عن اكتشاف المحرّم في النّفس ذاتها. لإقناعنا، لنعد إلى النّصّ. نرى هذا الشّيء المدهش، المفارق : فيما قد اعترف لتوّه أنّه غير أهل لتسمية العليّ، يعتبر فرنسيس نفسه هنا كأخٍ للشّمس، الّذي يقول عنها أنّها رمز العليّ. إذاً ماذا يعني هذا ألإعلان الأخويّ تجاه صورة عالية كهذه ؟ أليس إلقاء سلام لأختٍ في سيّدة الشّمس، هو التّعرّف بين الشّمس وبين الّذي يسبّحه بوجود قرابة عميقةٍ ؟

وهكذا فإنّ الشّمس الّتي يراها فرنسيس جميلة جدّاً واكتشف معها قرابة وثيقة لا تقع فقط من أعالي السّماء الكونيّة ؛ هي تشعّ من وسط نفسه، من خلال أعماق النّفس * المعموديّة لا تُطهّر من كلّ الخطايا وحسب، بل تصيّر المعتمد الجديد "خلقاً جديداً"(٢كو٥ ١٧) ، وابناً لله بالتّيني(غل٤ ٥-٧)، وشريكاً في الطّبيعة الإلهيّة(٢بط١ ٤)، وعضواً في جسد المسيح(١كو٦ ١٥) ووارثاً معه(رو٨ ١٧)، وهيكلاًللرّوح القدس(١كو٦ ١٩). ت م ك ك١٢٦٥. ، كنبوة لمصيرة الكامل. تعترف نفس فرنسيس وتحتفل، لا شعوريّاً، جلاءها الخاص، تحوّلها الكبير في الملكوت. كما لو كنتَ تشارك قبلاً ملكوتي...، قال له الصّوت. عامل الشّمس الرّائع هذا، الكلّه نوراً، الأخوي جدّاً ولكنّه مع هذا موسوم بخاتم العليّ، هو صورة لا شعوريّة، لكن معبّرة للغاية، عن النّفس الّتي تنأسر في كمال طاقاته ومصيره * في الموضع نفسه. مستخرجات من ص. ٦٧إلى٨٥. .

أضواء الّليل

كن مسبّحاً، يا ربّي،
بالأخ القمر والنّجوم؛
في السّماء كوّنتها
نّيّرة، ثمينة وجميلة.

ليس بإمكاننا الإمتناع عن الملاحظة أنّ القمر والنّجوم هما هنا، كما سابقاً الشّمس،الهدف من عاطفة أخويّة : هما مدعوّان أخ، وتعني هذه العبارة شيئاً ما بالنّسبة لفرنسيس ؛ هي تدع ظهور علاقات حميمة بينه وبين هذه الحقائق الكونيّة. من ناحية أخرى، ليست هذه الأخيرة مذكورة ببساطة ؛ هي متخيّلة، مثاليّة. تعبّر الصّفة الوحيدة ثمينة مطوّلاً في هذا الصّدد ؛ هي تكشف عن تقويم للمادة الكونيّة الّتي، يجب الإعتراف به، ليس لديه "معناً" هدفيّاً. نجوماً ثمينةً، هذا هو تصاهرالضدّين الّذي يُفجّر مهناها العادي. الشّيء الأوّل الّتي تضعه تسبيحة فرنسيس في النّور هو المكان المخصّص الّتي تحتلّها هذه الحقائق الكونيّة في مجموعة الخليقة : كوّنتها في السّماء. تُشير السّماء، في الّلغة الشّعريّة والدّينيّة، عن فلك العليّ. وهكذا يحمل الأخ القمر والنّجوم قبلاً نظرةً خلف هذا العالم.

تظهر هذه العوامل الكونيّة هنا كتعبير عن واقع متعال من خلال الطّريقة خاصّة الّتي يعي فرنسيس رؤيتها وتأمّلها : كوّنتها نيّرة، ثمينة وجميلة. لنتوقّف عند هذه الصّفات. تعبّر في بساطتها، عن انبهار. إنّ القمر والنّجوم هي بالنّسبة لفرنسيس إخوة مضيئة(الأنوار). إنّ ضوءها هو الّذي يفرحه قبل كلّ شيء وليس وجه هذه المخلوقات المظلم. لكن من الصّفات الثّلاث المحدّدة هنا للقمر والنّجوم، تستحقّ صفة ثمينة إنتباهً خاصّاً. تذكر هذه الصّفة واقعاً الّذي نعيره قيمةً كبيرةً. لا يستعملها فرنسيس في كتاباته إلاّ لتسمية صّفة الأشياء الّتي تُستَخدم لإحتفال السّرّ الإفخارستي، كما الأماكن الّتي يُحفَظُ فيها جسد المسيح المقدّس للغاية(و س١١،٢ر ر إ١١، ٦ر خ ر). يجب على هذه الأشياء وهذه الأماكن أن تكون ثمينة. وهكذا، في لغة كتابات فرنسيس، إنّ صفة ثمينة للأشياء مذكورة دوماً في علاقة وثيقة مع واقع مقدّس.هي لازمة من خلال هذا الواقع : عليها أن تعبّر عنها تقريباً. ليس الشّيء الثّمين هنا مُراد لنفسه، بل هو منظور كعلامة المقدّس. بتكراره صفة ثمينة في نشيده وبتطبيقها هذه المرّة على القمر والنّجوم، يُقيّم فرنسيس هذه العوامل في معنى ديني ؛ يُشير لنا من خلال ذلك أنّ هذه العوامل الكونيّة قد اكتست بالنّسبة له بتعبيرية مقدّسة، وبأنّها لغة المقدّس. في هذه الصّورة الباهرة الجمال، يتأمّل فرنسيس أيضاً كنزاً ثميناً ليس غريب عنه. يعرفه بنفسه ضمناً بتسميته لأخ هذه المادّة المنيرة، الثّمينة والجميلة. أليس الإعتراف بقرابة وثيقة ؟ تبحث الرّوح عن نورها الخاص بكشفها عن نور العالم. منيرة، ثمينة وجميلة هي روح فرنسيس، المخلوقة على صورة الله، كما على مثاله... * في الموضع نفسه. مستخرجات من ص.٨٧ٳلى١٠١.

أغنية الرّيح...

كن مسبّحاً، يا ربّي،بالأخت الرّيح،
وبالهواء والسّحب،
والسّماء الصّافية
وبجميع الفصول، الّتي بها تساند مخلوفاتكَ.

شيئاً فشيئاً، يتلوّن نشيد الشّمس بلون الأرض. يُصبحُ نشيد الأشياء البسيطة، القريبة بغرابة. الرّيح، الهواء، هما ايضاً، وهذا صحيحن عاملان يتركان الرّوح بين السّماء والأرض. لكن هل نستطيع تفرقة الأخت الرّيح والأخ الماء ؟ فهما وحدهما يشكّلان ثنائيّاً أخويّاً.

نجد في الإنجيل أمثالاً عدّة عن مشاركة الرّيح والماء معاً. وهكذا نقرأ في بداية سفر التّكوين : روح الله يرفّ على وجه المياه( تك١ ٢). في سفر الخروج، يتّحد الماء والرّيح ويبذلان جهدهما لتحرير الشّعب : فأرسل الرّبّ على البحر ريحاً شرقيّة شديدة... وقد انشقّ الماء... (خر١٤ ٢١ ٢٢)... سنعود لهذا الثّنائي الأخوي في آخر المقطع، الّذي سيُحدّثنا عن الأخ الماء.

الأخت الرّيح : يُدخلنا هذان الإسمان المشتركين في عالم ليس فقط عالم الأرصاد الجويّة. للرّيح وجه، روح. عندما نتحدّث هكذا عن الرّيح، فهناك شيئاً في الرّيح. في الحقيقة، إنّ الّذي يقول الأخت الرّيح يعترف أنّه ممنوح، نسيبن من خلال داخل نفسه، لنوع من جوّ كونيّ. غنّ جوّ الرّيح هو جوّ عالم معروضٍ، مفتوحٍ، حيث تندفع قوّة لا تجعلك تستريح وتجرّكَ دائماً أكثر بعداً، قوّةً لا تخشى أيّة إنشاءات وتقلب كلّ حاجز. للتّآخي مع الرّيح، يجب أن نكون متجرّدين من أشياء عدّة، منفتحين للتّجديدات الدّاخليّة. يجب أن نكون فقراء. وبينما يسمع فرنسيس أغنية الرّيح ويتعرّض لنفسه الأخويّ، تسعى روحه المجرّدة للإنفتاح بسعة دائماً أكثرلروح الرّبّ. يعترف بأنّ رغبته السّامية، هي أن يكون فيه روح الرّبّ وعمله المقدّس(٢ق ١٠).

بعد تسمية الأخت الممنوحة للرّيح، لنعد إلى الصّفات المذكورة من قبل فرنسيس. لكن لدهشتنا الكبرى، لا نجد هنا أيّة صفة. بينما جميع عوامل النّشيد الكونيّة موصوفة بغنى، فإنّ الأخت الرّيح، هي، متروكة نوعاً ما لنفسها. بالمقابل، إنّ الأخت الرّيح محتفلة في جميع مظاهره : الهواء، السّحاب، السّماء الصّافية، وجميع الفصول. جميع الفصول ! الفصل الجميل والفصل السّيء! إذاً لا يختار فرنسيس فصله. هو منفتح ومرحّب لرياح الخليقة الأربع. بالنّسبة له، لا يوجد فصلاً سيّئاً. إنّ إحتفال الرّيح الشّعريّ في

كمال مظاهره هو معبّراً لروح تسعى للإنفتاح لكامل للخالق وطموحاته. عبر تسبحة الفصول هذه، يشرح فرنسيس السّبب : الّتي بها تساند مخلوقاتكَ. مرحّب في كامل مظاهره، إنّ الأخت الرّيح هي مشاركة مباشرة للعمل الخلقي. طبعاً بإمكاننا التّساؤل : هل كان يعلم فرنسيس بمظاهر الّريح تحت شكل زوبعة أو إعصار ؟ فهاتان الأخيرتان بعيدة جدّاً لدعم المخلوقات. مهما يكن، نرى جيّداً أنّ صورة الرّيح هذه في فم فرنسيس قد كبرت، كما لو أنّها قُيّمت أكثر. هي لغة رمزيّة، خياليّة، تعبير عن ما تبحثه الرّوح في العمق. تُعبّر هذه الّلغة عن علاقة الرّوح بالمقدّس. بالفعل، إنّ التّقويم هنا هو أساسيّ ديني. في الواقع، إنّ الّذي يطلبه الشّاعر من صورة الأخت الرّيح، هو أن تُظهرَ له شيئاً من العليّ لكي يستطيع نقلها. ليست الأخت الرّيح محتفلة هنا كصانعة لمهمّة كونيّة، بل كتعبير لوجود يقظ وحيويّ لله لخليقته الكاملة. * في الموضع نفسه. مستخرجات من ص. ١٠٣ٳلى١٢١.

... والماء

كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بالأخ الماء،
الّذي هو جزيل الفائدة ووضيع
وثمين،وعفيف.

كما رأينا، إنّ الأخت الرّيح محتفلة كما لو كانت الّتي يُساند بها الله مخلوقاته ؛ هي مشاركة في العمل الخلقي. إنّ التّنمية مذكورة هنا في معنى الحيويّة والفعل. إنّ الأخت الرّيح هي صانعة لمهمّة. لكن إنّه العكس تماماً فيما يخصّ الأخ الماء. إنّ القيم مرتبطة مباشرة للملدّة نفسها : "كن مسبّحاً، يا ربّي، بالأخ الماء الّذي هوجزيل الفائدة ووضيع، وثمين وعفيف." لا تتضمّن هذه التّسبحة أيّ فعل. لم تُذكر أيّة مهمّة محدّدة للأخ الماء. إنّ قيمة هذا الأخير هي في نفسه. نلاحظ أنّه كان نفس الشّيء بالنّسبة

للقمر والنّجوم. من المحتمل إذاً، في نشيد فرنسيس، وجود تناوب لنوعين إثنين من التّقويم : واحد متّجه نحو الخارج، نحو الفعل الرّجوليّ، مع فرح العظمة- الّذي هو وضع الشّمس، الرّيح وأيضاً، كما سنراه لاحقاً، النّار-، والثّاني المتّجه في خصوصيّة الكائن وأعماقه- وهو وضع القمر والنّجوم، الماء و أيضاً الأرض.

من الأوصاف الأربع المعطاة للأخ الماء، لا يُمكن لثلاث منها الإستقبال ظاهريّاً "معنى" الهدف. يبدو الأوّل فقط مسلّماً به : الأخ الماء الّذي هو جزيل الفائدة. يتضمّن فكرة الخدمة، والخدوميّة. يساعد على تكوين الصّورة الّتي تظهر هنا كعلامة مائيّة في مادة العامل الكوني، والّتي هي صورة الوجود الأنثوي الخدوم( في الّلغة الفرنسيّة)، النّافعة، وفي الوقت نفسه، متّحفّظة، سريّة وطاهرة. لكن في تقويم الماء هذا، إنّهما خصوصاً الصّفتان الأخيران الّلتان تناديه : ثمين وعفيف. إنّها المرّة الثّانية الّتي نلتقي فيها الصّفة ثمين في هذا النّشيد. في المرّة الأولى، كان متعلّقاً في النّجوم، ولقد رأينا في فم فرنسيس، كلّ ما يتعلّق في المقدّس. من الصّحيح أنّ الأخ الماء، منافساً مع السّماء المنجّم، يعلم كيف يلمع كالأحجار الكريمة. يدعونا هكذا تكرار لصفة مثيلة بخصوص وقائع مختلفة كما هو حال النّجوم بالنّسبة للماء، للتّفكير أنّنا بتوجّهنا من صورة ماديّة لأخرى، يُتابع نظر فرنسيس الدّاخلي لا شعوريّاً نفس الواقع الثّمين، نفس الواقع المدهش وبجائزة كبرى : كنز ثمين. بعد هذا، لا يجب علينا، الإندهاش لرؤية صفة غالية مشاركة لصفة عفيف في صورة الأخ الماء. يتّجه هاتان الصّفتان في نفس المعنى. الماء الثّمين هو ماء حيّ يتفجّر من أعماقٍ سليمة، من نبع مخبّئ، مقدّس.

بإمكاننا مقابلة تسبحة الأخ الماء هذه،المشاركة لتسبحة الأخت الرّيح، بما يقول فرنسيس في رسالته لجميع المؤمنين : علينا أن لا نكون حكماء ومتعقّلين، بحسب الجسد، بل بالحريّ، أن نكون بسطين، متواضعين، وأنقياء... علينا أن لا نرغب أبداً، في أن نكون فوق الآخرين، بل علينا بالحريّ، أن نكون خدّاماً، وخاضعين لكلّ خليقة بشريّةن من أجل الله. وجميع الّذين، واللّواتي يعملون هذه الأعمال، ويثابرون فيها حتّى النّهاية، سيستقرّ روح الرّبّ عليهم، وسيجعل فيهم، مقامه ومسكنه. وسيكونون أبناء الآب السّماويّ، الّذي يعملون أعماله. وهم عرائس ربّنا يسوع المسيح، وإخوته،وأمّهاته. أليس الإنسان الّذي يتخلّى عن حكمته وعن إرادته للسّيطرة، أليس تحديداً الإنسان الّذي يقبل أن يرمز الأخ الماء الّذي هو جزيل الفائدة ومتواضع، ثمين وعفيف ؟ لكن يرى هذا الإنسان المثيل نفسه متّحداً سريّاً مع روح الرّبّ.

ينزل الرّوح عليه مثل روح الخالق على المياه البدائيّة، مثل الأخت الرّيح على الأخ الماء. يتغلّله روح الرّبّ إلى أعمق ما فيه ويُقيم فيه مسكنه. ومن جرّاء هذا الإتّحاد ينتج ولادة جديدة، ولادة الإنسان الإلهيّة، ولادة الطّفل الإلهي في الإنسان : سيكونون أبناء الآب... كم تظهر إذاً معبّرة صورة الكنز الكبير والغالي الّتي استعملها الصّوت الإلهي منادياً فرنسيس إلى الفرح : كتلة الأرض محوّلة إلى ذهب صافٍ، الحجارة إلى أحجار ثمينة، ومياه الأنهر إلى عطر(س ب٤٣، ٢ش ٢١٣). ويغنّي نشيد الشّمس هذ التّحوّل الغريب في قلب الإنسان. * في الموضع نفسه. مستخرجات من ص.١٠٣إلى١٢١.

الأخت النّار

كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بالأخت النّار
الّتي بها تنير لنا الّليل :
فهي جميلة، فرحة،
صلبة قويّة.

يُظهر نشيد المخلوقات افضليّة واضحة لصور النّور. فهذه الأخيرة تسيطر : تأتي في الأوّل صورة الأخت الشّمس المشعّة ؛ وهي فوراً متّصلة بصور الأخ القمر والنّجوم، الّتي هي أيضاً صور النّور، نيّرة ثمينة وجميلة ؛ ثمّ في الأخ الماء، يجد فرنسيس لمعان النّجوم الثّمين. وها هي الأخت النّار ! الجميلة، الفرحة، الغير مروّضة الأخت النّار الّتي تُنير الّليل. تتكرّر الصّفة جميلة ثلاث مرّات في هذا النّشيد؛ وكلّ مرّة، هي متّصلة لعامل منير. بالنّسبة لفرنسيس، يبدو جيّداً أنّ المّادة الجميلة الّتي هي في غاية الجودة، مادة أحلامه المفضّلة، تكون المادة المشعّة : النّور، النّار.

تشيرالكلمات المستعملة من قبل فرنسيس لوصف النّار، أنّ النّار بالنّسبة إليه، ليست شيئاً مجهولاً. تُصبح وجوداً حيّاً وتشعّ بالفرح، جميلة وفرحة، كائناً فائضاً بالحياة وبالحيويّة، صلبة وقويّة. العنفوان، الحيويّة، القوّة الّتي لا تُقهر، مع الفرح والمرح، هذا ما يتأمّله فرنسيس في هذه الرّفيقة الّتي تُنير الّليل. وفي هذه الصّورة النّشيطة أساسيّاً، يتعرّف فرنسيس على وجود أخويّ ؛ يشعرمثلها، يشعر أنّه مرتبط بها، بشدّة، كما في روابط العصب ؛ باختصار، يدعوه : الأخت النّار.

من خلال ضوءها وحيويّتها، تكون الأخت النّار مشابهة للأخت الشّمس. مثلها، هي صورة الآب والله، صورة القوّة الحيويّة والخالقة.غير أنّ الأخت النّار لها علاقة واضحة بصورة الّليل : الّتي بها تُنير لنا الّليل. يُحتفل الشّمس مثل نور النّهار ؛وتُحتفل النّار مثل نور الّليل ؛ مثل الأخت الشّمس، تُعبّر الأخت النّار مصالة الرّوح، لكنّها تجعلنا نراها متّصلة لعبور ليلي. لا يجب النّسيان، الإنسان الّذي، في مسار حياته، يُغنّي النّور في نشيد الشّمس، هو نفسه الّذي أمضى قسماً من وجوده منعزلاً في عمق الكهوف وظلماتها، متوسّلاً الله، في ليلة الرّوح، بأن يُطهّره داخليّاً، ويستنرنه داخليّاً ويضطرمه بنار روح القدس (ر ر). * في الموضع نفسه. مستخرجات من ص.١٢٣إلى١٤٥.

أختنا الأمّ الأرض

كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بأختنا أمّنا الأرض
الّتي تساعدنا وتديرنا،
وتنتج الثّمار المتنوّعة،
مع الأزهار المتنوّعة والأعشاب.

إنّ الأرض محتفلة هنا مثل الأمّ : تساعدنا وتدبّرنا، مثل طريقة الأمّ الّتي تُطعم أولادها. تظهر خصوبتها عبر كلّ أنواع الثّمار. تفصيلة مهمّة : الأزهار المتنوّعة والأعشاب مذكورة بالقرب من الثّمار. لا تكتفي الأرض باطعام أولادها. مثل أمّ يقظة، تحيط الكائنات الّتي تعيش قربها بالجمال.

لكن إنّ الّذي يفاجئ في الطّريقة الفرنسسيسيّة لتسمية الأرض، هو إسم أخت وأمّ الّلذان معطيان لها في نفس الوقت. بالنّسبة لفرنسيس، إنّ لدى الأمّ الأرض وجه أخت أيضاً. بفعله هذا، يمنحها شباباً جديداً. وبعمق أكثر، يخلق بينه وبين الأرض علاقة جديدة. لا تدمّر التّسمية أخت المعطاة للأرض أمومتها ولا تُضعفها، لكن تحدّد حدودها. تشير إلى أنّ إذا الأرض هي أمّنا، الّتي نتعلّق بها حيويّاً، فهي ليست رغم ذلك المصدر الوحيد للكائن والحياة ؛ هي نفسها مخلوقة، بالطّريقة نفسها للوقائع الكونيّة الأخرى. هي ونحن نتعلّق أخيراً من نفس الأصل العظيم، من الآب الّذي خلق كلّ شيء. وهكذا، يتعالى

الشّكران والتّقديرالّلذان يكنّهما فرنسيس للأرض، من خلالها، لمصدرأعلى : كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بأختناأمّنا الأرض...

بإمكاننا دوماً أن نكون مستهوين بعدم رؤية، في حياة فرنسيس، إلاّ الجانب المصوّر، الرّائع والحنون من حياته وعلاقاته مع المخلوقات الأخرى. فنحفظ عندها قصّةً جميلة عن طيور، ذئب أو أرنب. وها هو بطلنا المرفّع أمير الخليقة السّاحر. لكن، ونبدأ الآن بالتّحليل، إنّ قوّات فرنسيس الخياليّة تحفر عمق الكائن ؛ تريد أن تجد في الكائن، البدائي والأبدي في آن واحد. لننظر إليه يتسلّّق الّدعائم .ما الّذي يجذبه فوق هذه الأعالي ؟ هل هو سطح الأشياء البرّاق ؟ لا، طبعاً. وصولاً إلى فوق، لم يتوان لعدم وجود عمق، كهف أوحتّى شقّ في الصّخرة، للغوص فيه. يكتب شيلانو : كان شقّ الصّخرة مسكنه المفضّل(١ش٧١). شيء غريب : تترجم طريقة فرنسيس الماديّة هذه نفس الحركة الدّاخليّة المعبّرة في نشيده : إندفاع كبير نحو الأعالي( نحو العليّ)، مرتبط بنزول نحو الأعماق وإلى اتّصال جدّ متواضع. الدّخول في كهف للمكوث فيه، يعني الدّخول في علاقة مع عالم الرّوح الغامض والمجهول، مستسلمين لإنجذاب السّرّ الّذي يسكننا. في عمق هذا الكهف، يلمع دائماً نوعاً من كنز ثمين. * في الموضع نفسه.مستخرجات من ص.١٤٧إلى١٧٣.

السّماح والسّلام

كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بأؤلئكَ الّذين يصفحون، حبّاً بكَ؛
ويحتملون السقام والشّدائد ؛
طوبى للّذين يحتملونها بسلام،
لأنّهم منكَ، أيّها العليّ، سيكلّلون.

للوهلة الأولى، لا يبدو هناك أيّ اتّصال يربط هذه الآية الجديدة بالسّابقة. لم تعد الإهتمامات والمواضيع هي ذاتها. بينما كان الشّعر بكامله حتّى الآن متّجاً نحو وقائع الطّبيعة ويشكّل تسبيحةً كونيّة، ها هو يركّز بعنفٍ على الوقائع الإنسانيّة، على مصير الإنسان المتخاصم مع أمثاله، مع المرض وشتّى الشّدائد. حتّى الجوّ ليس نفسه. كانت تسبحة العوامل الكونيّة تجري بكاملها تحت شعار أخويّة بلا غيوم ولا خيال ؛ على العكس، تُدخلنا الآية قبل الأخيرة، في عالم حيث توجد الضغوطات، الصّراعات والألآم.

مع هذا، رغم هذه الفروقات، أصرّ فرنسيس لإدخال هذه الآية على نشيد المخلوقات. لا يوجد شكّاً عند فرنسيس أنّ هذا المقطع كان منغّماً للعمل الكامل وينبع من نفس الوحي الأساسي. أليست نفس إرادة المصالحة الّتي تُعبّر من الجهتين، هنا في احتفال العوامل الكونيّة الأخويّ، وهنا في تسبحة السّماح والسّلام ؟ لا يُمكننا أن نُترجم بشكل أفضل الحنان الرّحيم الّذي فاض من قلب فرنسيس لجميع البشر إلاّ بذكرنا النّصائح الّتي أعطاها لخادم في الرّهبنة : ... وبهذا أريد أن أعرف إن كنتَ تحبّ الله وتحبّني، أنا، خادمه وخادمكَ : إن لم تترك أيّ أخ في العالم، في حال خَطِئَ، بقدر ما يستطيع أن يخطأ، وبعد ان يرى عينيكَ، يمضي من دون رحمتكَ، في حال طلبَ الرّحمّة. وإن هو لم يطلب الرّحمّة، فاسأله أنتَ، هل يُريد الرّحمّة. وإن هو،بعد ذلك، أخطأ الف مرّة أمام عينيكَ، أحببه أكثر منّي، لكي تجذبه إلى الرّبّ...

من الملاحظ أنّ هذا النّشيد الّذي يحتفل بالأخويّة الكونيّة الكبرى يمتدّ في احتفال السّماح والصّبرالبطولي. ليست الرّؤيا الفرنسسيسيّة لكون أخويّ استذكار لفردوس ضائع. هي رؤيا العالم، المُسيطَرة من خلال أوليّة المصالحة على الشّقّ، الوحدة على الإنفصال.وللبحث عن هذه الوحدة وهذا الكمال ، هما في وجود أكثر عمقاً في النّفس وفي الآخرين.

تنتهي التّسبحة بتطويبة : طوبى للّذين يحتملونها بسلام، لأنّهم منكَ، أيّها العليّ، سيكلّلون. الإنسان المكلّل من العليّ، هو الإنسان الشّمسي، الرّحوم تجاه كلّ مخلوقة. يشعّ بروعة كبيرة مثل الشّمس. ومثلها، هو رمز العليّ، مقدّماً للجميع هذا الوجود الكامل وهبة تضحيته الّلذان ليسا إلاّ تعبيراً عن وجود الله وعن هبته الّتي يقدّمها في كلّ لحظة ولجميع البشر. * في الموضع نفسه.مستخرجات من ص.١٧٥إلى١٨٥.

أخينا الموت

كنْ مسبّحاً، يا ربّي، بأخينا المةت الجسدي،
الّذي لا يقدر أن يفلت منه أيّ إنسان حيّ.
والويل لمن يموتون في الخطايا المميتة ؛
وطوبى لمن يجدهم في إرادتكَ الكليّة القداسة،
لأنّ الموت الثّاني لن يلحقَ بهم سوءاً.

إذاً لقد أُلّفت هذه الآية الأخيرة من نشيد الشّمس من قبل فرنسيس في الأيّام الّتي سبقت موته، آلآمه. كان سعيداً لمقابلته ودعاه لعنده : ليكن أخينا الموت على الرّحب والسّعة كان يقول(٢ش ٢١٧). تنفتح هذه الآية، مثل جميع الآخريات، بحركة تسبيح. لكن هنا، لم تعد تستند الحركة، على مخلوقة، بل على الّذ ي يدعوه فرنسيس أخينا الموت الجسدي. فهو يميّزه بشطحة : الّذي لا يقدر أن يفلت منه أيّ إنسان حيّ. أخ غريب الّذي لديه وجه ضرورة قاسية ! نتيجة لذلك، يكشف تعبير أخينا الموت الجسدي معناه : وهو ملاقاة أخويّة مع ضرورة الموت القاسية والعنيفة. ملاقاة معيشة ومحتفلة في فُتحة التّسبحة، مثل طريق نحو المقدّس. إذاً،مع هذه الضّرورة الشّفقيّة الّتي يتآخاها فرنسيس، كما يتآخى مع الشّمس، دون أيّ غمّ. إذا لم نكن نعرف فرنسيس، فلا يمكننا إلاّ أن نرى، في هذا

الخلاص الأخويّ، إلاّ نداء محتضر للخلاص من آلآمه الّتي لا تُحتمل. لكن، هذا ليس صحيحاً. بعيداً عن معنى الرّغبة بالتّخلّص من الوجود، وبسلامه للموت مثل أخٍ، ينفتح فرنسيس لبعد لا يُمكنه تحديده وينفتح فقط من خلال عمل تنازل عن الأنا. فيه يتحفّق ما الّذي قد طلبه من إخوته : لا تحتفظوا، إذاً، لذواتكم بشيء منكم، لكيّ يتقبّلكم كليّاً، من يهبكم ذاته كليّاً(ر ر٢٩). من خلال تنازله عن الأنا، يكون فرنسيس منفتحاً كليّاً للخالق. وهكذا يُصبح نشيد المخلوقات تعبيراً عن اهتداء أساسي. لقد انتقل مركز جاذبيّة الوجود : لم يعد في الأنا وفي اهتماماتي الخاصّة، ولو الرّوحيّة ؛ لقد أصبح في سرّ الخالق.

يرى الإنسان الّذي سلّم نفسه للخالق، كلّ الأشياء في انفتاح الخالق، بما في ذلك الموت. لم يعد بالنّسبة إليه هذا الغريب والمدمّر. هو مثيل بالإنسان الّذي ينعزل في الأنا : الويل لمن يموتون في الخطايا المميتة. الخطيئة المميتة، الخطيئة الّتي تُعطي الموت للرّوح، هي تحديداً إنغلاق الأنا الواعي على نفسه وعلى فرديّته، وامتلاك نفسه مهما كان الثّمن. إنّ الإنسان الّذي ينفصل هكذا عن الخالق هو ميت روحيّاً.

لمباركة الموت وضروريّته، يجب الإرتفاع على طريقة الخالق : طوبى لمن يجدهم في إرادتكَ الكليّة القداسة لأنّ الموت الثّاني لن يلحق بهم سوءاً. إنّ الّذي قد قبل بالتّنازل عن نفسه والتسليم إلى الخالق وهدفه المبدع، ينعم منذ الآن في الأبديّة. لم يعد يعيش حياةً مفترقة. يُشارك حياة الخالق نفسه. هو منفتح للرّجاء الكبير.الخالد هو نفسه رجاءه : أنتَ رجاءنا،... أنتَ حياتنا الأبديّة، يغنّي فرنسيس في تسابيحه لله(ت ل٦).

باستطاعة فرنسيس رؤية الشّمس والموت في نفس النّظرة الأخويّة، وأيضاً بنفس استبشار القلب. من خلال الواحد والآخر، هو نفس سرّ الخالق الّذي يحدّثه ويحتفله. لكنّه يرى الموت مثلما هو لأنّه قَبِلَ أوّلاً، وبتواضع كبير، بالتّآخي مع الشّمس وجميع المخلوقات، وقد عَلِمَ، باتّصاله الرّائع مع هذه الأخيرة، لإكتشاف في ضرورة" من تحت"، وجه العليّ. يظهر في هذا النّور الرّابط العميق والمختبئ الّذي يربط آية النّشيد الأخيرة لمجموع العمل. تضع هذه الآية الأخيرة ختم الخالد على التّسبحة الكونيّة. إنّ درب المخلوقات هو أيضاً درب الخلود. * في الموضع نفسه مستخرجات من ص.١٨٧إلى١٩٧.

سبّحوا ربّي وباركوه

سبّحوا ربّي وباركوه،
واشكروه واخدموه
بتواضع كبير.

بإمكان هذه الطّريقة الختاميّة أن تكون غير منظورة. لكنّها تستحقّ بأن نتوقّف بضع لحظات.

لقد رأينا أنّ بداية كلّ آية من نشيد المخلوقات تشهد، دون غموض، أنّ هذا النّشيد يتوجّه للعليّ : سبّحوا ربّي. إنّ الرّبّ هو" المرسل" لتسبحة فرنسيس. لكنن إذا كان نشيد المخلوقات هو حقّاً عبارة عن صلاة تُترجم أيضاً درب روحه، لا يُريد فرنسيس ختام تسبيحته دون دعوتنا للمشاركة : سبّحوا ربّي وباركوه. تتوجّه هذه الأسطر إلينا، المخلوقات الأخرى، إخوته وأخواته. لكن إذا كانت هذه الدّعوة تتوجّه إلينا، فهي موجّه كليّاً نحو الرّبّ : إشكروه واخدموه. ومثل لحن الأرغن، يُلخّص فرنسيس في ثلاث كلمات الطّريقة الّتي لا مفرّ منها لإتّباعها في تسبحة الرّبّ وخدمته : بتواضع كبير. لا يُمكن لأيّة تسبحة أن تكون فريدة إذا لم تترافق، من قبل الّذي ينشدها، بتواضع حقيقي. ولا يُمكن لأيّ خدمة طقسيّة أن تكون جميلة لله إذا لم تُترجم، على الأساس، المعروف المتواضع أنّ كلّ طيبة تأتي من العليّ. لنتذكّر مثل الفرّيسي والعشّار الّلذان يصعدان إلى الهيكل للصّلاة. يبدأن صلاتهما في نفس الوقت : الّلهمّ، إنّي أشكركَ. لكنّ الفرّيسي، واقفاً أمام الهيكل، بدأ فوراً بإخراج الله من صلاته وبتنميته هو : لستُ كسائر النّاس... إنّي اصوم... أُعشّر كلّ ما هو لي... أمّا العشّار، وقف عن بعد ولم يرد أن يرفع عينيه إلى السّماء. قارعاً صدره، إعترف بأنّه فقير، مسكين وخاطئ : الّلهمّ ارحمني أنا الخاطئ ! وختم يسوع هذا المثل : اقول لكم، إنّ هذا نزل إلى بيته مبرّراً دون الآخر لأنّ كلّ من رفع نفسه اتّضع ومن وضع نفسه ارتفع(لو١٨ ٩ـ١٤).

ينقل لنا القدّيس بونافنتورا، في السّيرة المطوّلة، تواضع فرنسيس، منسوخة من تواضع المخلّص، أخينا : التّواضع، سلامة الفضائل وزينتها، يفيض في إنسان الله. في نظره، لم يكن أقلّ من خاطئ، لكن في الحقيقة كان مرآةً ساطعةً بكلّ قداسة. مثل مهندس فطن الّذي يبدأ بالأساسات، وضع كلّ اهتمامه لتشييدها، تماماً مثل تعليم المسيح : "كان يقول، لو نزل إبن الله، من جميع علوّه الّذي يفصل دنائتنا جنّة الآب، فهو لكي يعلّمنا التّواضع، هو سيّد ومعلّم، من خلال الكلمة والمثل..."(س م٦ ١).

إحترام الخليقة

البند١٨.

ليحترموا أيضاً المخلوقات الأخرى، الحيّة والغير الحيّة،" لأنّها تحمل تعبير العليّ * ١ش ٨٠. " ؛ فليبحثوا عن التّخلّي عن تجربة الإفراط لفكرة مبتكرة فرنسسيسيّة تنتشر في الكون أجمع.

ليحترموا المخلوقات الأخرى

لكن من هي هذه المخلوقات الأخرى المقصودة من بند قاعدتنا هذا ؟

لنلاحظ أنّ هذا البند يلي فوراً البند الّذي يعالج العائلة. هذا الوضع مهمّ لأنّه يُعطي الإنارة الضّروريّة لفهم من هي المخلوقات المقصودة في هذا البند ١٨الشّهير. بما أنّ الموضوع في البند السّابق يتعلّق بالعائلة، وتحديداً الأزواج وأولاد الأسرة، فهم أوّلاً هذه المخلوقات، أزواجاً وأولاداً المقصودين هنا، ومعهم، (أيضاً) المخلوقات الأخرى. إذاً يجب فهم هذا البند الجديد بمعنى واسع جدّاً : من بين المخلوقات الحيّة * حيّة من الّلغة الّلاتينيّة أنيماري، دي أنيمَ، النّفس الحيّ. ، نجدغذاً، بالطّبع، العالم الحيواني والنّباتي الّلذان نفكّر بهما عفويّاً ؛ لكن، على رأس قائد المخلوقات الحيّةن نجد عائلتنا الخاصّة والبشريّة الكاملة. يُدخلنا نشيد الأخت الشّمس، مع آيته عن السّماح والسّلام، البعيدة ظاهريّاً من التّسبحة الكونيّة السّابقة، بطريقة منيرة في رؤية الأشياء هذه. في سياق تأمّل هذا البند من قاعدتنا، يجب أخذ الإعتبار دائماً، دون استبعاد المخلوقات الحيّة الأخرى.

أمّا بالنّسبة للمخلوقات الغير الحيّة، فهي الّتي ليس لديها حياة أو، من خلال جمودها، تبدو أنّها لا تملك حياة. المقصود هو العالم المائيّ. أليس من المدهش أنّنا مدعوّين أيضاً لإحترام هذه المخلوقات الغير الحيّة ؟ من جهة أخرى، هل بإمكاننا عدم احترام الشّمس، القمر، الماء...؟ سيكون لنا عوامل الإجابة على هذه الأسئلة في المقطعين التّاليين.

تلاميذ القدّيس فرنسيس، كان بإمكاننا التّصوّر أنّ قاعدتنا تدعونا لغناء الخليقة عبر نشيد الأخت الشّمس. لكن هذا ليس صحيحاً، على الأقلّ ظاهريّاً. لكن تدعونا قاعدتنا لغناء العليّ بطريقة واقعيّة خاصّة : باحترامنا المخلوقات الأخرى. عملنا هذا، هو غناء الخالق في حياتنا في كلّ الأيّام. لكن ماذا هو الإحترام ؟

في الّلغة الفرنسيّة، يُعرّف الإحترام بشتّى المعاني. إذا استبعدنا المعاني الّتي ليست لها علاقة ظاهريّاً مع مضمون بند قاعدتنا، يبقى هناك إثنين بإمكانهما إنارتنا تماماً : تُعرّف الأولى الإحترام كموقف حزم لعدم إساءة شيئاً ما ؛ إساءة شيء ما، هو العمل المسبّب لضرر أخلاقي أو ماديّ لهذا "الشيء". في مضمون قاعدتنا، يتضمّن إذاً إحترام الخليقة من جهة هذا التّعرّيف الأوّل لعدم فعل أيّ عمل مصرّ للمخلوقات الأخرى، على الصّعيد الأخلاقي كما على الصّعيد الماديّ. إحترام القريب أخلاقيّاً، هو مثلاً، عدم إغتابه : كان فرنسيس يهرب مثل لدغة أفعى أو وباء رهيب النّميمة، مميتة للبرّ والنّعمة، شيء فظيع للرّبّ الصّالح، لأنّ النّمّام، كان يقول، يقتات من دم الأرواح الّتي قتلها بواسطة لسانه الّذي هو مثل السّيف(س م٦ ٤).

إحترام الطّبيعة ماديّاً، هو، مثلاً، أخذ الإعتبار بقدرتها الخاصّة للعيش وللتّكاثر، أيّ بعدم التّسبّب بضرر الإنقراض من على سطح الأرض. عندما يذهب إخوته لقطع الحطب، كان فرنسيس يمنعهم من هدّ جذع الشجّرة، حتّى يتمكّن هذا الأخير من إعطاء ورق جديدة(٢ش ١٦٥). بهذا، كان فرنسيس يتبع التّعليم الإلهي الّذي ينقله لنا سفر التّكوين، الّذي هو دون غموض حول الإحترام الموجب للخليقة : باركهم الله وقال لهم : انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها(تك١ ٢٨). لا تعني مطلقاً كلمة أخضعوها الموجّهة للإنسان من قبل خالقنا أنّ بإمكان الإنسان" تدمير" الأرض، بل تعني أنّ الأرض، من قبل الله نفسه، هي" في خدمة" الإنسان. سنعود لاحقاً على هذه الفكرة.

يتضمّن تعريف الإحترام الثّاني بشعور التّقدير هذا الّذي نكنّه لله أو للّذي هو مقدّس. يتّفق أنّ تتمّة بند قاعدتنا ، الّذي سنعالجه الآن، تنطبق تماماً لهذا التّعريف الثّاني.

لأنّها تعبير عن العليّ

بإمكاننا احترام المخلوقات الأخرى لأنّها مفيدة، أوأيضاً لأنّها جميلة. هذه الأسباب حميدة، لكن غير كافية. يجب أن تُحتَرم الكائنات المخلوقة من الله لأنّها تعبير عن العليّ. بالفعل، كما يُحدّده التّعليم المسيحي في الكنيسة الكاثوليكيّة * ت م ك ك٤١. ، في جميع المخلوقات بعض الشّبه بالله، ولا سيّما الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. فالكمالات المتعدّدة في الخلائق(حقيقتها، وصلاحها، وجمالها) تعكس إذن كمال الله اللامتناهي. ولنا من ثمّ أن نسمّي الله انطلاقاً من كمالات خلائقه، فإنّه بِعِظَم البروءات وجمالها يُبصَرُ ناظرها على طريق المُقايسة(حك١٣ ٥). لكن بما أنّ فرنسيس لم يكن يعظّم المخلوقات، لنعترف بدورنا أنّ الله هو للغاية أكبر من أعماله : قد جعلت جلالكَ فوق السّماوات(مز٨ ٢)، وليس لعظمته استقصاء(مز١٤٥ ٣).

يرى فرنسيس، بنشيده السّيدة الأخت الشّمس، رمز العليّ. ويرى فرنسيس تعبير العليّ هذا من خلال مخلوقاته، عندما يفتح عينيه، عندما يوجّه روحه نحو كائن : وعندما كان مجبراً على المشي على الأحجار، كان يفعله بخوف واحترام، بمحبةّ الّذي اسمه الصّخرة" * ١كو١٠ ٤ ...كانوا يشربون من الصّخرة الرّوحيّة الّتي كانت تتبعهم والصّخرة كانت المسيح. (ﺲ ب٥١).

الإغراء بالإفراط

ليس الإستعمال الّلائق والمنظّم لشيء ما بالعمل المحكوم في ذاته. مثلاً، إنّ شرب الخمر ليس سيّئا في حدّ ذاته في منطلق أنّه مستعمل في عيار عادل. لكن الإفراط، هو الإستعمال السّيء، التّجاوز، المبالغة، المغالاة. إنّ الإغراء الّذي يقع فيه السّكّير، هو أنّه في النّهاية، لا يعلم عمل وبحث خير لنفسه إلاّ السّكر.إذاً ليس الإفراط في الشّيء إلاّ إفساد الإرادة( الإستسلام لإغراء السّكر لكي نُعيد المثل )بل إفساد الحكم (الشّرّ، في نظر السّكّير، هو الماء الصّافي). إنطلاقاً من هنا، لنتساءل إذاً على الّذي نقصده بالإغراء بالإفراط بالخليقة ؟ لكن قبل الجواب على هذا السّؤال، لنتذكّر باختصار لماذا الخليقة. * بإمكاننا ربّما إعادة القراءة بمنفعة أولى صفحات الفصل الأوّل من كتاب التّكوين هذا، الصّفحات الأولى المعنونة في البدء.

الله محبّة، وهو صاح للغاية. وإذا كان الخلق صادراً عن الصّلاح الإلهي فهو يشترك في هذا الصّلاح : ورأى الله ذلك أنّه حسن... حسن جدّاً(تك١ ٤ ١٠ ١٢ ١٨ ٢١ ٣١). ذلك أنّ الله أراد الخلق هبةً موجّهة إلى الإنسان، بمثابة إرثٍ خًصّ به وأودعه * ت م ك ك٢٩٩. ".

كان على الإنسان، المتصدّر على رأس الخلق، ردّ معه جميع ما خُلِقَ نحو الله، كشهادة محبّة لله. آدم وحواء، برفضهما هذا الأمر وكونها أن ّيُصبحا مثل الله، غيّرا هدف كلّ الخلق بتملّكهما به. عاقبة فوريّة لهذه الخطيئة : حرفا الإنسان عن الله. ونتيجة قطع علاقتهما مع الله، حلّ الطّمع في قلب الرّجل والمرأة بدل المحبّة الّتي كانت بينهما. رأى الإنسان أوّلاً في المرأة عظم من عظامي ولحم من لحمي( تك٢ ٢٣). مقابل المحبّتين يُظهر سفر التّكوين الرّوح ويُخرجه من الحياة العائليّة( تك٢ ٢٣ـ٢٤)، يلي الآن أنانيّتين إثنتين : وإلى بعلكِ تنقاد أشواقك وهو يسود عليكِ( تك٣ ١٦). * مستخرجات ص٧٧ إلى٧٩. André Feuillet, Histoire du Salut de l’humanité d’après les premiers chapitres de la Genèse

لكن، يتحدّث يسوع المسيح، الّذي جاء لتجديد كلّ شيء، لتلاميذه عن مجيئه في مجده وعن يوم الدّينونة(متى٢٥ ٣١ـ٤٦) ؛ يُذكّرهم أوّلاً أنّهم مباركي أبي، وأنّهم سيرثون المُلك المُعدّ لهم منذ إنشاء العالم. ويُعطي المسيح أسباب حصولهم علة هذا الميراث : لأنّي جعتُ فأطعمتموني ؛ وعطشتُ فسقيتموني ... هذه هي فعلاً الطّريقة الّتي يُشيرها لنا للرّدّ لله، معه، كلّ العالم المخلوق. وعندما سألوه الصّدّيقيّن : يا ربّ متى رأيناك ... ؟جائعاً فأطعمناك ؟ أو عطشان فسقيناك ؟... ويُجيبهم الملك : الحقّ أقول لكم، إنّكم كلّما فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فبي فعلتموه.

الإفراط بالخلق، هو تحويله عن هدفه. وهذا التّحويل هو سرقة. باستطاعتنا، بمرورنا بهذا المقطع، ذكر باسكال : الإنزلاق في النّفس هو بداية كلّ بلبلة. قال الرّبّ : لا تسرق (خر٢٠ ١٥)، لا تسرق( متى١٩ ١٨). لا تخصّ الوصيّة السّابعة فقط ما الّذي نسمعه عادة بسرقة، أيّ العمل الّذي يكون بسلب فرد ما الخير الّذي يملكه : هي تصفُ أيضاً العدالة والإحسان في إدارة الخيرات الأرضيّة وثمار عمل البشر. تطلب، في سبيل الخير المشترك، إحترام مصير الخيرات الكوني. ويُشير لنا إنجيل الدّينونة بوضوح ما الّذي ينتظرنا إذا حوّلنا الخلق عن هدفه : إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النّار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته. لأنّي جُعتُ فلم تطعموني وعطشتُ فلم تسقوني ... وإذا أجبنا : يا ربّ متى رأيناك جائعاً

أو عطشان... فيُجيبنا : الحقّ أقول لكم إنّكم كلّما لم تفعلوا ذلك بأحد هؤلاء الصّغار فبي لم تفعلوه.

لكي لا نتردّد بالذّهاب حتّى النّهاية بحثاً عن الله في صفحة الإنجيل هذه : كنتُ جائعاً وعطشاناً (من روحكم)، ولم تقدّموها لي. الرّوح البشريّة، متواضعة ومقدّمة لرغبة الله، هي قمّة الخلق الرّوحي. إنّ تقدمة روحنا لرغبة الآب، هي، بعد الإفخارستيّا، أجمل تقدمة باستطاعتنا توجيهها إلى الله خالقنا، الرّحوم والمخلّص.

الفكرة الفرنسيسيّة عن الأخويّة الّتي تمتدّ إلى الكون أجمع

لقد خصّصنا صفحات عدّة من هذا الفصل لإكتشاف نشيد الأخت الشّمس. تُشكّل هذه الصّفحات، المستخرجة أساسيّاً من كتاب الأخ إيلوا لوكلارك عن نشيد المخلوقات، تعليقاً عن الّذي نسمعه بالفكرة الفرنسيسيّة عن الأخويّة الّتي تمتدّ إلى الكون أجمع. لنزيد فقط هذه الأسطر( أيضاً من الأخ إيلوا) :

يُشكّل هذا النّشيد الّذي يربط الحركة نحو العليّ بالإتّحاد الأخوي مع جميع المخلوقات إحدى النّقاط المهمّة من الرّسالة الفرنسيسيّة. لا يُمكن أن تتكوّن الحياة الرّوحيّة فوق الطّبيعة، دون غضّ النّظر عن هذه الأخيرة ؛ لا يُمكن أن تُبنى فوق جهة كياننا المظلمة، في احتقار جذورنا الكونيّة والنّفسانيّة. لايُمكن أن تكون إلاّ نموّاً كاملاً، في رحابها إلى كلّ ما هو. على الإنسان الّذي يريد الولادة من الرّوح قبول التّآخي مع الماء. وليس فقط مع الماء، بل أيضاً مع النّار، مع الهواء، مع الأرض... عليه التّآخي، بالإنبهار والغناء، مع جميع المخلوقات. حتّى مع الّليل وأضوائه المظلمة. عليه قبول الدّخول تحت الصّخرة، في الكهف السّرّي والمظلم، لرؤية استيقاظ الطّفل الإلهي بين الحمار والثّور. يحتفل نشيد المخلوقات هذه الولادة الإلهيّة في أعماق الإنسان.

عندها كي لا نندهش عندما تتحوّل هذه التّسبحة الكونيّة لإحتفال سماح وسلام. لقد أصبح أخ الشّمس، الهواء، الماء وجميع المخلوقات إنساناً بشريّاً رائعاً : كن مسبّحاً، يا ربّي، بأولئك الّذين يصفحون حبّاً بكَ. طوبى للذّين يحتملونها بسلام ! السّلام، السّماح ! هذه هي علامات الولادة الجديدة الأكيدة. لقد اختفى كلّ احتقار، وكلّ تعدّي. وكلّ اضطراب أيضاً. نعلم أنّ بالنّسبة لفرنسيس إنّ اضطراب النّفس والغضب هما علامتا تملّك سريّ للنّفس : يُشيران إلى أنّ الإنسان موجّه في أعماقه بشيء ما غير روح الرّبّ (ت٤ ،١٣،١٤). إنّ الإنسان الّذي يشارك حقّاً روح الله لا يضطرب ولا يغضب من شيء، ولا حتّى من غلطة الآخرين (ت١١،١٥ ،٢٧،٢ق٧، ١ق٥).

يتعرّف إذاً الإتّحاد الفرنسيسيّ للطّبيعة كطريق عرفان، في مفهوم الكلمة المزدوج : في نفس الوقت حمد لله والبحث عن الوجود الإلهي في روحنا. يُخفي الكون الّذي يحتفله فرنسيس سرّاً. هذا هو

السّرّ الّذي تجتهد تسبيحته لتبينه. تسكن جميع هذه الأشياء" الثّمينة"، وجوداً حيّاً، غامضاً وودوداً في نفس الوقت. بتآخيه بانبهار مع الشّمس، القمر والنّجوم، النّار والأرض، يكتشف فرنسيس بشكل متناقض أعماقه الصمّيميّة.

على الإنسان المتحضّر الفهم، أنّ في عمله على الطّبيعة، له صلة على نفسه لا شعوريّاً، على جهة نفسه الأكثر غموضاً، والأكثر تصميماً ايضاً. إنّ الإنسان،بحسب طريقة معاملته للقريب أو للمخلوقات الأخرى، ينفتح أو ينزوي على أعماقه الخاصّة. لا يُمكن أن يوجد مصالحة حقيقيّة وكاملة مع نفسه ومع أمثاله، دون التّآخي مع الطّبيعة نفسها. ليس المقصود هنا مجرّد موقف عاطفيّ بسيط، بل خبرة صعبة تعهد كلّ إنسان منذ أعماقه الّلا شعوريّة حتّى علاقته مع العظمة. التّآخي مع جميع المخلوقات، مع الكون كلّه، كما فعله فرنسيس الأسّيزي، هو، أكيداً، إختيار رؤية العالم حيث تغلب المصالحة على الإنفساخ ؛ هو الإنفتاح، وراء جميع التّفريقات وجميع الإنعزالات، لكون اتّحادٍ حيث" يلتحق سرّ الأرض بسرّ النّجوم"، في نفس كبيربالسّماح والمصالحة. * مستخرجات من ص٢٢٩،٢٣٢،٢٣٤و ٢٣٥. E.LECLERCفي الموضع نفسه

أسئلة

أسئلة حول فحص المعارف

١) بإعادة قراءتنا§ من هذا الفصل المعنون في البدء كان الكلمة وبحفظنا نشيد المخلوقات، هل باستطاعتي تبين التّابهات بين النّصّين ؟

٢) إنّ نشيد فرنسيس عن المخلوقات هو فعلا تسابيحاً موجّهة للعليّ. لكنّه يعبّر أيضاً عن شيء آخر. ما هو هذا" الشّيء الآخر "؟

٣) تدعونا قاعدتنا لإحترام المخلوقات. لكن ما هو السّبب الّذي تذكره لتبرير إحترام كهذا ؟

أسئلة تعمّق

١) تُعيدنا الّليتورجيّا لأحاسيسنا لتحدّثنا عن العليّ، لتوجيهنا إليه،..." الشّمعة الّتي هي مخصّصة له تقول الشّعلة. ليست تقدمة تُحفَظُ سليمة، هي تقدمة مخصّصة للإستنفاد لكي تُعطي النّر حولها. تضحية ذاتيّة، نور للآخرين، هذا ما تُريد الشّمعة التّعبير عنه"(حبرنا الأعظم بولس السّادس،٢ شباط ١٩٦٧). هل باستطاعتي التّعمّق في رموز القدّاس وسرّه ؟
إلى ماذا يرمزو(أو) ما هو دورالمذبح،البخّور، بيت القربان، المنبر، الكأس، الشّموع، البطرشيل، الكمّين،...؟

٢) لقد رأينا أنّ الصّفة الثّمينة، المستعملة في آية القمر والنّجوم تُعيدنا سرّاً إلى سرّ الإفخارستيّا. ُيتّفق أن كلّ آية (هناك عشرة في النّشيد) تُعيد بنفس هذا الإدراك : أو لأحد أشخاص الثّالوث الأقدس الثّلاثة، أولأحد طرق الخلاص السّبعة الّتي هي ألأسرار (لا يوجد خطأ التّكرار !). هل باستطاعتي البحث على إيجادها، بطريقة ممارسة نظري لرؤية، من خلال الكائنات، معنى العلّي ؟

٣) كائن صغير مسكين ضعيف وبائس، غالباً ما أضع الله على باب روحي عندما لا أحترم الكائنات الأخرى. هل باستطاعتي، بتواضع كبير، البحث عن تعيين ما الّذي لا يتماشى مع تصرّفي تجاه الكائنات الحيّة وغير الحيّة. مع مساعدة نعمة الله، ما هي الحلول الواقعيّة الّتي أتّخذها اليوم "لولادة " المسيح من خلال أعمالٍ صالحة الّتي يجب أن تكون للاخرين نوراً ومثالاً ( رم١٠) ؟

أعلى الصفحة

منفذاً من www.pbdi.fr رسم من Laurent Bidot ترجمة : Myrna Lebertre